جامعة مؤته :: نحو بيئة تعليمية أفضل

خطاب صاحب الجلالة الملك الحسين المعظم في حفل افتتاحية جامعة مؤتة 2/2/1985

1989-02-01T21:00:00Z
أيها الأخوة الأعزاء

أيها الحفل الكريم

في هذا اليوم الميمون من شهر جمادى الأول الذي وقعت فيه معركة مؤتة، وعلى هذه البقعة الطاهرة من ثرى الأردن العزيز أقف بينكم في هذه اللحظات لنحتفل جميعاً معانا أسرتنا الأردنية الواحدة بقيام صرح علمي جديد، ينضم إلى صرحين شقيقين سبقاه في عمّان وأربد، ليزهوا إقليم الجنوب بجامعة مؤتة كما زها الشمال باليرموك والوسط من قبلة بالجامعة الأردنية.

إن سعادتي بهذا الحدث المبارك لكبيرة، وهي بالتأكيد ذات السعادة التي نغمركم ومعكم كل أردني ونحن نشهد انبثاق نور جديد سيسهم بعون الله في إنارة طريق التنمية والتقدم وسبيل القوة والمنعة، وسيفيض على العقول تفتحاً، وعلى القلوب بصيرة وإيماناً، وعلى المجتمع خيراً وبركة.

لمؤتة في النفس مكانة، وفي القلب منزلة، وفي الخاطر رعشة اعتزاز، كما لها في الذكرى مستقر مجد وانتماء، ففي بطاح مؤتة تم أول احتكاك بين عرب الإسلام وغيرهم وكان ذلك في ميدان القتال وفي مؤتة جرت أول محاولة إسلامية لاجتياز أول حاجز بين الجزيرة العربية والعالم الخارجي، وبعد مؤتة انطلق العرب في آفاق ذلك العالم شرقاً وغرباً يحملون رسالة الحق والنور للبشرية جمعاء، وعلى أرض مؤتة سال نجيع الشهداء: زيد وجعفر وعبد الله، فمنحوا هذه الأرض قيمة تاريخية، وصنعوا بشهاداتهم رمزاً خالداً للتضحية في سبيل الانطلاق برسالة الخير، وحفزوا الأجيال من بعدهم على تخطي حواجز الظلام بنور العلم والإيمان، وأودعوا فينا أمانة حماية هذا الثرى الطاهر بما نملك من قدرات، وبما نُعُدُ من أسباب القوة والمنفعة، واعهدوا إلينا حمل الراية وإبقاءها عالية خفَّاقة مثلما فعلوا ومن أجله استشهدوا، فوفاءً لهذه المعاني جاء اختيار الموقع، وجاءت التسمية لتكون جامعة مؤتة تجسيداً علمياً وعملياً للعبر المستخلصة من معركة مؤتة، فتقبل كمعهد علمي على الاحتكاك بالآخرين في ميدان الثقافة والمعارف الإنسانية، وتقتحم آفاق العلم الرحبة مجتازة حواجز التردُّد والانغلاق والمحلية رائدها التفتح والعطاءً ومحركها الالتزام بخدمة الوطن والأمة

لقد خطت الجامعة أولى خطواتها بثبات وثقة عندما ضمت تحت جناحيها كلية الشرطة الملكية في نيسان 1981 تحت اسم "كلية العلوم الشرطية" لتشكل أول كلية من كليات الجامعة، فكانت نواة مباركة قدمت لمجتمعنا أربعة أفواج من الشباب المؤهل في كليات العلوم الشرطية إلى جانب التخصص القانوني أو الإداري وكان هؤلاء الخريجون العينة الصادقة لإنتاج جامعة مؤتة الفتية لما يتحملون به من معارف ومهارات وخصال حميدة في أدائها للواجب وتفانيهم في تحمل المسؤولية.

أيها الأخوة الأعزاء

وتقتضي المناسبة أن أتحدث في موضوع التعليم العالي في بلدنا انطلاقاً من حقيقتين.أولهما: إن العالم اليوم يعيش فترة انتقال بين ماض يتعرض العديد من أسسه للتقويض ومستقبل ما زال في طور التكوين وثانيهما: إن الأردن الذي ضنت عليه الطبيعة بمواردها ليس أمامه من خيار سوى التعويض عنها بالإنسان الكفء المدرب القادر على استغلال مواردنا القليلة، الاستغلال الأفضل، ليصبح هو ذاته المورد الأساسي والأكثر عطاء.

أن هاتين الحقيقتين أيها السادة تفتحان عيوننا على أكثر من مجال وميدان، ولعل من أهمها ميدان التعليم بعامة والتعليم العالي بشكل خاص، حيث الكم وموضع تقويم ومراجعة من حيث التوجه والكيف.

أن إيقاع التغير والتقدم الذي تفرضه المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية في هذا العالم لا يمكن أن يمنح دولة نامية كالأردن ترف البحث عن المعرفة للمعرفة ذاتها في منأى عن متطلبات التنمية وحاجات التكيف مع مستلزمات العصر أو السعي للدرجة العلمية لإشباع ذروة تحقيق مكانة اجتماعية وهمية من خلال الإصرار على تخصصات تنعدم فرص العمل فيها.

إن في مثل هذا التوجه تغذية للإحباط وهدراً للمال والوقت في بلد قليل الموارد يسعى لتوفير فرص العمل والرخاء لأبنائه وأسباب القوة والمنعة لوجوده ولمستقبله فلا بد من تجنب الانفصال بين ما يدرسه العديد من الطلبة وبين مشاكل الأردن المحسوسة سواء نجم هذا الانفصال عن نوعيات التخصص أو حجمها.

ومن هنا فإن توثيق الصلة بين القوى البشرية في المملكة من جهة وبين الموارد المتاحة والآفاق الحقيقية للتنمية من جهة أخرى ينبغي أن يكون الشخص الذي تهتدي به كل المؤسسات والهيئات المسؤولة عن التعليم العالي وهي ترسم سياستها التعليمية سواء كان ذلك في مجال افتتاح كليات أو معاهد جديدة أو في تحديد تخصصاتها أو في وضع برامج تلك التخصصات.

كما أن توثيق هذه الصلة يستلزم عدداً من أبرزها التدريب على الحاسب الإلكتروني في أكبر عدد ممكن من مجالات الاختصاص وتطوير القدرات الإدارية بشكل جاد.

ولعله قد حان الوقت للنظر في إمكان تدريس الإدارة الحديثة كمتطلب جامعي إجباري مثلما هو الحال مع العلوم العسكرية وينبغي أن يفهم بأن القصد من التعليم العالي ليس مجرد الحصول على أعلى درجة علمية متاحة، فالمهم هو إعداد الخريج وتدريبه بشكل يسمح له بمتابعة حقل تخصصه والمعارف المتعلقة به بعد حصوله على الدرجة العلمية ومن أهم العوامل التي تحقق ذلك هو إتقان لغة ثانية تؤمن له القدرة على مواصلة الإطلاع واستيعاب التقدم الذي يطرأ على حقل تخصصه في عالم سريع التغير، ولا يقل أهمية عن البرنامج المعتمد لأي تخصص أسلوب تنفيذه وتدريسه بما ينمي عند الطالب حسن الانضباط والإبداع وأسلوب البحث العلمي والقدرة على التحليل وإجراء المحاكمات العقلية حول المشكلات والمعضلات في منأى عن الحشو والخرافة والاستظهار والتلقي، ولا يمكن للمعاهد العليا أن تحقق رسالتها في قيادة التغيير البناء إذا اقتصرت في عملها على تعريف الدارس بقدر من المعرفة تتوفر في فترة زمنية محددة مهما كانت كثافة تلك المعرفة ومهما بلغت درجة استيعاب الطالب لها.         

أن القيم المصاحبة للتعليم العالي لا تقل أهمية عن التحصيل المعرفي لأنه في تلك القيم تكمن القدرة على تحديث المعرفة المستمر وحل المشكلات التي يواجهها الخريج في الحياة العملية.

وبهذا النمط من التعليم نستطيع أن نخلق التميز ونحافظ عليه ونجعل من مواطننا الأردني أثمن مورد لهذا الوطن فعلاً لا قولاً.

في هذه المناسبة يسرني أن أوجه تحية تقدير واعتزاز إلى العراق الشقيق قيادة وحكومة وشعباً لما قدموه من دعم مادي أسهم في تأسيس هذه الجامعة وإظهارها إلى حيز الوجود ونذكر بالعرفان والتقدير هذا الإسهام الأخوي.

كما أحيّي وأقدر الجهود المخلصة الدءوبة للجنة الملكية الخاصة بجامعة مؤتة، ولكل من عبر مسيرة الإنشاء والتكوين وكذلك القوات وأجهزة الأمن العام والكوادر الإدارية والفنية حمل عبء تأسيس الجامعة ودفعها إلى الأمام اعتزاز الأسرة الأردنية الكبيرة وتثمينها لكل يصب في خدمة المجتمع والنهوض به وتطويره.

ولجامعة مؤتة الفنية لكل دعمنا ورعايتنا المستقبلية وخططها الطموحة.

​وفقنا الله جميعاً لما فيه خدمة الوطن والأمة.

.